الأحد , مايو 28 2023
آخر الأخبار
الرئيسية / مقالات / رحيل باتجاهِ الراحة الأبدية.. اللحظات الأخيرة مع الشيخ جبري (رحمه الله)

رحيل باتجاهِ الراحة الأبدية.. اللحظات الأخيرة مع الشيخ جبري (رحمه الله)

بقلم: محمد علي حسان عبدالله

المصدر: مجلة الوحدة الإسلامية – العدد 181

“اللهم صلِّ على سيدنا محمد الفاتح لِما أُغْلِق.. والخاتِمِ لما سَبَقْ، ناصرِ الحق بالحق والهادي إلى صراط مستقيم…”.
هذه اللازمة التي كان يردِّدُها سماحته في افتتاحه لكلامه أمام الجموع.. وهذه هي المفرداتُ التي تستهوي القلوب وتستدرُّ غلالة المهجَ للأنسِ بما سيأتي من كلام..
وكأني به يريد من هذا التمهيد بهذه اللازمة أن يستميل مشايخ الطريقة التيجانية في أفريقيا، فلم أعهده يبدأ حديثه بالصلاة على الفاتح في الهند أو ماليزيا أو أندونيسيا، لكنه آنسَ من رئيس المشايخ عندهم هذا التمهيد في الصلاة على النبي للشروع في الكلام عن شجون وشؤون وهموم الوحدة الإسلامية على صعيد العالم.. فأصبح يستخدمها كلازمةٍ في افتتاح كلماته الملهمة.
كان الشيخ جبري مثالاً أعلى للصبر والكفاح في الحياة، فلقد قارب عمرُه الستين ولم أرهُ مستسلماً للتعب أو منهكاً من السفر.. وكان قد أنهى جولته في العراق.. ثم عاد إلى لبنان، ليرتاح ساعاتٍ قليلةً، ومن ثم إلى مطار بيروت مفرداً أشرعةَ الإبحار الدعوي إلى أفريقيا.
عند الوصول وعلى الرغم من وعثاء السفر على مدى عشر ساعات دون توقفٍ لم يركن للراحة أبداً.. لقد جال في أبيدجان.. وتكلم مع الناس بلغته الوحدوية.. وطلب منهم العودة إلى دينهم الأصيل.. وأسهب في الحديث عن أهمية فهم الدين لجهة الوحدة بين المسلمين..
معه.. وفي جولاته وعلى الرغم من تنعُّمي بالصحة الجيدة وفارق العمر بيننا كوني بعمر أصغر أولاده.. على الرغم من ذلك.. كنت قد تعبت من الحرارة العالية والطقس المتقلب، إذ أن الحرارة وقتها لامست الخمسين درجةً مئويةً، وفي كل لحظةٍ كنتُ أذكِّرُه بأنه ينبغي أن نرتاح، كان يردِّد عبارته التي انطبعت في كياني كأنها أيقونةُ الخلاص وسمة الدخول إلى عالَم الروحانيات: “لا راحة لمؤمن إلا بلقاءِ وجه ربه”.. نعم، أذكرُ أنه ربما رددها أكثر من مئة مرة!!.
في رحلتنا باتجاه مالي حيث لا وجود للمستوى الأدنى من متطلبات الحياة ناهيكَ عن مستلزمات الشعور بالراحة الجسدية والنفسية، كان اللقاء الأول في أحد أكبر مساجد مالي.. صلينا صلاة الجمعة.. وكنت كلما سجدت أشعر بأنه سيغمى علي.. لكنني أبداً لم أره متذمراً أو منزعجاً.. بل كان دائماً ـ كعادته منذ معرفتي به ـ ضاحك الوجه.
تكلم في الناس ساعةً.. أخذ بألباب جميع الحاضرين.. استمال قلوبهم وشغفهم.. لقد كان يجيد استمالة الحضور.. ومتمرساً في الاستحواذ على عقول الحاضرين بإسلوبه اللطيف المحبب الذي يدخل القلب وينعش الروح بغير استئذان.
في اليوم الثاني من رحلتنا إلى مالي ذهبنا إلى جوامع البَّر، حيث استغرقت الرحلة في السيارة عشر ساعات، وصلنا إلى الفندق ليلاً… جلست معه في الغرفة لنتحدث عن أعمال اليوم التالي، فقال: “لا تكلمني عن الغد فلا نعلم إن كان هذا الغدُ سيأتي”، ثم قال: “أريد أن أستريح ولا أرغب في تناول الطعام، واكتفى بتناول حبةٍ من فاكهة الموز.. ودّعته.. ومن ثم ذهبت الى غرفتي.
ما هي إلا ساعة.. ولحظة خروجي من غرفتي.. ألفيتُهُ ملقىً على الأرض.. ويدُه على رأسه، وكانت آخر كلمة له: “رأسي يؤلمني”.. ومن بعدها لم أسمع سوى تمتماتٍ لعلها مناجاة بينه وبين بارئه..
هناك.. في مالي.. وفي مستشفى Polyclinique Pasteur في العاصمة باماكو.. كنا في انتظار خبر وصول طائرة طبية تنقله إلى لبنان.. على أمل أن يتم علاجه في مستشفيات بلده.. وبعد ستة أيام من هذا الانتظار المقيت.. عدنا إلى بيروت، ومن ثم تم نقله إلى مستشفى الرسول الأعظم..
توالت الأخبار السيئة.. واختلطت بأخرى مطمئنة.. لكنني فهمت أخيراً في 22 كانون الأول ما رسخَ بذهني من مفردةٍ عظيمةٍ رددها قلبُه مع لسانه بكل تسليم واطمئنان: “لا راحة لمؤمن إلا بلقاء ربه”…
رحم الله المربي الشيخ عبد الناصر جبري.. وغفر له.. وأسكنه فسيح جناته.. حيثُ الراحةُ الأبدية عند رب العرش العظيم.. “وإنا لله وإنا إليه راجعون”.

شاهد أيضاً

خدعة اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني وسذاجتنا

بقلم: الشيخ الدكتور حسان عبدالله المصدر: مجلة الوحدة الإسلامية – 180 نحن العرب نحب الكلمات …